الذهب معدن ثمين يجذب الاهتمام ببريقه وقيمته العالية على مر العصور. لطالما سعى الإنسان إلى استخراج الذهب من باطن الأرض لما له من قيمة نقدية وزخرفية كبيرة.
لكن كيف يتم استخراج معدن الذهب من الأرض؟ وما هي المراحل والطرق المختلفة للحصول على هذا المعدن النفيس من الصخور والخامات؟ في هذا المقال سنأخذكم في رحلة شاملة نتعرف فيها على طرق تعدين الذهب ومراحل معالجته وتنقيته حتى نصل إلى الذهب الخالص جاهزًا للاستخدام.
طرق استخراج الذهب من الأرض
تعتمد طريقة استخراج الذهب على نوعية الرواسب الموجودة وشكل تواجد الذهب في الطبيعة. يوجد الذهب إما في عروق صخرية داخل المناجم العميقة، أو في رواسب سطحية كالرمال والحصى في مجاري الأنهار (الذهب الغريني). فيما يلي أبرز طرق تعدين الذهب المستخدمة لاستخراج خام الذهب من الأرض:
التعدين السطحي (Open-Pit Mining): يتم استخدام هذه الطريقة عندما يكون الذهب قريبًا من سطح الأرض نسبيًا. حيث تُزال طبقات التربة والصخور التي تغطي الخام بواسطة الحفارات والجرافات، لتكوين حفرة كبيرة مفتوحة. تمتاز هذه الطريقة بقدرتها على استخراج كميات كبيرة من الخام بكفاءة عالية، لكنها تؤدي إلى تغيير كبير في معالم سطح الأرض.
التعدين تحت الأرض: تُستخدم هذه الطريقة لاستخراج الذهب الموجود في عروق عميقة تحت سطح الأرض لا يمكن الوصول إليها بالتعدين السطحي. يقوم عمّال المناجم بحفر أنفاق وأعمدة رأسية في باطن الأرض للوصول إلى أماكن تواجد الذهب ثم استخراج خام الذهب منها. تتطلب هذه الطريقة تجهيزات خاصة للتهوية ودعم الأنفاق، وتُعتبر أكثر تعقيدًا وكلفةً من التعدين السطحي لكنها ضرورية للخام الموجود على أعماق كبيرة.
التعدين الغريني (Placer Mining): يُقصد به استخراج الذهب من الرواسب الرملية والحصوية في مجاري الأنهار القديمة والجديدة. كان الغسل (Panning) من أقدم أساليب تعدين الذهب، حيث يُفصل الذهب بوضع الرمل أو الحصى في وعاء واسع مع ماء وتحريكه بشكل دائري لتترسب قطع الذهب الأثقل في القاع.
هناك أيضًا التعدين الهيدروليكي الذي ابتكره الرومان واعتمدوا فيه على ضخ مياه قوية لجرف الرواسب الحاملة للذهب وفصلها. في العصر الحديث، قد تُستخدم ماكينات حديثة مثل المنخل الهزاز أو المزلق الحلزوني لزيادة كفاءة استخراج الذهب من الرمل الأسود الغني بالمعادن الثقيلةب.
خطوات استخراج الذهب ومعالجته
بعد الحصول على خام الذهب من المنجم، سواء كان منجمًا سطحيًا أو تحت الأرض، تأتي مراحل معالجة الخام لاستخلاص الذهب الخالص. تمر عملية استخراج الذهب بعدة خطوات أساسية لتحويل الصخور الخام إلى سبائك ذهب نقية:
- السحق والطحن: في هذه المرحلة يتم تفتيت الصخور الحاملة للذهب إلى قطع صغيرة ثم طحنها إلى مسحوق ناعم بواسطة مطاحن خاصة. الهدف هو تحرير حبيبات الذهب من الصخور المحيطة. يُخلط الخام المطحون مع الماء لتشكيل ملاط (عجينة) لتسهيل المعالجة اللاحقة. الطحن الجيد يزيد من مساحة سطح الخام مما يساعد في زيادة كفاءة عمليات الاستخلاص اللاحقة.
- فصل الذهب عن الخام: تعتبر هذه أهم مرحلة، ويتم فيها استخلاص الذهب من المواد الأخرى المرافقة. هناك عدة طرق وتقنيات يمكن استخدامها حسب طبيعة الخام:
- الفصل بالجاذبية: يعتمد على كثافة الذهب المرتفعة. يُمكن استخدام طاولات اهتزاز أو أحواض دوّارة لترسيب الذهب الأثقل في القاع وفصلها عن الشوائب الأخف. هذه الطريقة فعّالة مع الذهب ذو الحجم الكبير نسبيًا وتُستخدم كثيرًا في المناجم الصغيرة.
- طريقة التعويم (Flotation): تُستخدم للخام الذي يحتوي على معادن كبريتيدية مرتبطة بالذهب. في هذه العملية يتم إضافة مواد كيميائية معينة إلى مسحوق الخام المطحون مع ضخ هواء في المحلول، فتلتصق جسيمات الذهب بفقاعات الهواء وتطفو على السطح حيث يتم قشدها. هذه الطريقة فعالة لفصل الذهب المختلط بخامات أخرى بنسبة قليلة.
- الترشيح بالسيانيد (Cyanidation): وهي من أكثر الطرق الصناعية شيوعًا لاستخلاص الذهب من خام منخفض الدرجة. يُعالَج الخام المطحون بمحلول سيانيد الصوديوم الذي يذيب الذهب تاركًا الشوائب. بعد ذلك يُضاف مسحوق الزنك لتحرير الذهب المذاب على شكل راسب، ثم يُجمع الذهب من المحلول ويرسّب. تعتمد الكثير من المناجم الكبيرة على هذه التقنية لقدرتها على استخراج كميات صغيرة من الذهب بكفاءة عالية.
- طرق أخرى أقل شيوعًا: ابتكر الخبراء عددًا من الطرق الكيميائية الأخرى لاستخراج الذهب في حالات خاصة. من ذلك طريقة الزئبق (الملغم) حيث يُمزج الذهب مع الزئبق لتكوين ملغمة ثم يُفصل بتسخينها لتبخير الزئبق، ولكن هذه الطريقة لا تسترجع سوى حوالي 40% من الذهب وتعد خطرة بسبب سمية الزئبق. هناك أيضًا طريقة الرصاص (السبك بالرصاص) وهي تقنية قديمة تستخرج ما يقارب 100% من الذهب حتى ولو كان دقيقًا جدًا، لكنها مكلفة جدًا وخطرة بسبب أبخرة الرصاص. ويستخدم بعض الكيميائيين الماء الملكي (خليط حمضي قوي) لإذابة الذهب بشكل كامل عند تحليل العينات، إلا أن هذه العملية خطرة أيضًا نظرًا للغازات السامة المنبعثة منها. تجدر الإشارة أيضًا إلى تطوير طرق أحدث صديقة للبيئة نسبيًا؛ فعلى سبيل المثال اكتشف باحثون عام 2013 إمكانية استخدام نشا الذرة بدل السيانيد لإذابة الذهب بفعالية، وهذه الطريقة لا تزال قيد البحث والتطوير لتصبح بديلًا آمنا للتقنيات الحالية.

3. الصهر والتنقية النهائية: بعد فصل أغلب الذهب من خاماته، قد يبقى بحاجة إلى تنقية للحصول على درجة نقاء عالية (عادة 99.99%). تُجمع مركزات الذهب الناتجة من المراحل السابقة وتُسخّن في أفران خاصة لدرجة حرارة انصهار الذهب (حوالي 1064°م).
أثناء صهر الذهب تُضاف مواد كيميائية تساعد على الارتباط بالشوائب المتبقية لتطفو على السطح كخبث، بينما ينزل الذهب الذائب النقي للأسفل.
يُسكب الذهب المُذاب بعد ذلك في قوالب لتشكيل سبائك بأحجام مختلفة. في المصافي الحديثة، قد يتم تنقية الذهب كهربائياً أيضًا عن طريق تحلية محلول يحتوي على أيونات الذهب وترسيبه كهربيًا على أقطاب معدنية (عملية الاستخلاص الكهربائي).
كما تُستخدم تقنية الكربون في اللب (CIP) لامتصاص جزيئات الذهب المذابة على سطح الفحم النشط ومن ثم استرجاعها منه، وهي طريقة تزيد من نقاء الذهب المستخرج في مرحلة التنقية النهائية.
بعد إتمام هذه المراحل، يُترك الذهب ليبرد ويتصلب، ومن ثم يُصقل للحصول على السبائك أو الحبيبات الذهبية الجاهزة للبيع أو التصنيع. هكذا يتحول خام الذهب المتناثر في الصخور إلى معدن نفيس جاهز للاستخدام في صناعة المجوهرات أو تخزين القيمة.
لمحة تاريخية عن استخراج الذهب
يُعد استخراج الذهب من أقدم الحرف التي مارستها الحضارات البشرية. تشير الأدلة الأثرية إلى أن الإنسان بدأ في تعدين الذهب واستخراجه منذ آلاف السنين. فقد عُثر على مشغولات ذهبية في مقبرة فارنا في بلغاريا يعود تاريخها إلى حوالي 4500 قبل الميلاد، مما يدل على أن تعدين الذهب عمره يفوق 7000 عام.
اشتهرت الحضارة المصرية القديمة باستغلال مناجم الذهب في مناطق النوبة والصحراء الشرقية منذ عهد الفراعنة، حيث كان الذهب يُستخدم للزينة وللأغراض الدينية.
كما استخدم الرومان تقنيات التعدين الهيدروليكي على نطاق واسع لاستخراج الذهب من الرواسب الغرينية، ومن أشهر الأمثلة منجم لاس مدولاس في إسبانيا الذي حفره الرومان بالمياه المضغوطة.
في العصور الحديثة شهد القرن التاسع عشر ما يسمى بـحمى الذهب في كل من كاليفورنيا وأستراليا، حيث تدفق آلاف الباحثين عن الكنوز إلى مناطق اكتشاف الذهب أملًا في الثراء السريع. ومع مرور الوقت تطورت تقنيات استخراج الذهب من أدوات يدوية بسيطة إلى آلات ومعدات حديثة وتقنيات كيميائية وفيزيائية متقدمة كما رأينا.
أكبر الدول المنتجة للذهب عالميًا
يتم استخراج الذهب اليوم في جميع قارات العالم تقريبًا، وتتصدر بعض الدول قائمة الإنتاج العالمي سنويًا. تأتي الصين في المرتبة الأولى عالميًا من حيث إنتاج الذهب، وتليها روسيا في المرتبة الثانية ثم أستراليا في الثالثة فالولايات المتحدة الأمريكية في الرابعة.
وتسهم أيضًا دول مثل كندا وبيرو وجنوب أفريقيا واندونيسيا في إنتاج كميات كبيرة من الذهب سنويًا. يعتمد ترتيب الدول المنتجة للذهب على عدة عوامل منها حجم الاحتياطيات في أراضيها والتقنيات المستخدمة وشركات التعدين العاملة فيها، ويتغير الترتيب مع اكتشاف مناجم جديدة ونضوب أخرى قديمة.
الجدير بالذكر أن بعض الدول العربية كذلك تنتج الذهب بكميات تجارية، مثل مصر التي يعد منجم السكري في صحرائها الشرقية من أكبر المناجم في الشرق الأوسط، والسودان والمملكة العربية السعودية التي تنشط فيها أعمال تعدين للذهب ضمن خطط تنمية قطاع التعدين.4
التحديات والآثار البيئية لتعدين الذهب
على الرغم من القيمة الاقتصادية الكبيرة لتعدين الذهب ودوره في توفير المواد الخام الثمينة، إلا أن لهذه العملية تحديات بيئية واجتماعية مهمة. تتطلب مناجم الذهب السطحية إزالة مساحات شاسعة من التربة والنباتات مما يؤدي إلى تشويه المناظر الطبيعية.
كما أن استخدام المواد الكيميائية مثل السيانيد والزئبق في عمليات الاستخلاص قد يؤدي إلى تلوث التربة ومصادر المياه بالمعادن الثقيلة والمواد السامة. وقد تُعاني المجتمعات المحلية القريبة من المناجم من مشكلات بيئية وصحية نتيجة مخلفات التعدين إذا لم يتم التحكم فيها بشكل صحيح.
للتخفيف من هذه الآثار، أصبحت ممارسات التعدين المسؤول أمرًا ضروريًا في الصناعة الحديثة. يشمل ذلك اتباع إجراءات صارمة لمنع تسرب المواد السامة، ومعالجة مياه المناجم قبل صرفها في الطبيعة، وإعادة تأهيل مواقع المناجم بعد إغلاقها عبر استصلاح الأراضي وزراعتها من جديد.
بالإضافة إلى ذلك، تساهم شركات التعدين الكبرى في تنمية المجتمع المحلي من خلال توفير فرص العمل والمشاريع التنموية في مناطق المناجم، إلى جانب الالتزام بالمعايير البيئية العالمية وخضوعها للرقابة الحكومية لضمان عدم الإضرار بالبيئة.
خلاصة
في الختام، استخراج معدن الذهب عملية معقدة تتضمن مزيجًا من العلوم الهندسية والكيميائية والخبرات البشرية المتراكمة عبر السنين. بدأ الإنسان رحلته مع تعدين الذهب بوسائل بدائية كالغسل اليدوي في الأنهار، وتطورت التقنيات تدريجيًا حتى وصلنا إلى الأساليب الحديثة عالية الكفاءة التي نستخدمها اليوم.
ورغم التحديات الكبيرة، يظل الذهب هدفًا يستحق السعي وراءه نظرًا لقيمته المادية والتراثية الفريدة. سواء كان ذلك من أجل الاستثمار أو الصناعة أو الزينة، فإن بريق الذهب الذي يخلب الألباب سيستمر في دفع البشر لمواصلة البحث والتنقيب عن هذا المعدن النفيس واستخراجه من بطون الأرض بأفضل الطرق الممكنة.